العراق ولبنان مثالان معاصران لما أقول
مشكلتنا مع الدول الغربية، وبالذات مع ما يسمونها منظمات المجتمع المدني، أنهم يضعون معايير ومقاييس في تصنيفاتهم لدول العالم الثالث، منطلقين من تجاربهم ومعاييرهم هم وليس من واقع الدول التي ما زالت في طور التنمية الإنسانية والحضارية؛ وهم بذلك يسمحون لأنفسهم من خلال تلك المعايير الحكم على الدول والأنظمة على كونها صالحة أو طالحة. فالديمقراطية وما يسمونه حقوق الإنسان، هما معياران يضعونها بمثابة الفيصل بين عدالة المجتمعات وظلمها، أو استقامتها واعوجاجها، بينما يغفلون أموراً أخرى أهمها مدى (جاهزية) تلك الدول من حيث التنمية البشرية في تقبل هذه الإصلاحات. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس من القضية برمتها.
خذ مثلاً لا حصراً دولتين تُعد بالمقاييس الغربية هي من الدول التي تطبّق (الديمقراطية) النسبية بالمعايير الغربية، والتي يطالبون المجتمعات الأخرى بها، كما يطالب بها أيضاً بعض الكوادر المتعلّمة والمثقفة من الشعوب العربية؛ هذان المثالان هما دولة (لبنان) والدولة الثانية (العراق)، ستجد أن تلك الدولتين على وجه الخصوص تعصف بهما رياح عاتية تجعلهما فعلاً لا قولاً أكثر الدول العربية الأقرب لنشوب حرب أهلية بين مكونات المجتمع، إضافة إلى أنهما تأتيان في أعلى القائمة من حيث انتشار الفساد بكل أنواعه، حسب تصنيف (منظمة الشفافية العالمية)؛ والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا لم تحقق الديمقراطية، واللجوء إلى صناديق الانتخاب، من العدالة ما يقضي على الفساد؟.. ولماذا تجدهما الأقرب إلى انفراط الأمن والاستقرار في أي لحظة، ولماذا الخدمات المدنية، حتى البدائية منها، مثل الماء والكهرباء، في هاتين الدولتين متدهورة؟.. ولماذا الديون المالية ورداءة الاقتصاد تكبلهما، وتحد من قدرتهما على توفير ما تتطلبه التنمية من مصادر مالية؟
مشكلة الغرب ومعهم كثير من دعاة حقوق الإنسان العرب أنهم لا يحفلون، ولا يهتمون إلا بالحصان الذي يجر عربة المجتمع، ولا يهتمون بالعربة، وهل هي صالحة من حيث التكوين الديناميكي لأن يجرها الحصان.. هذه المقولة في تقديري تختزل مشكلة فشل الدول العربية مع الديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الانتخاب.
نقطة مهمة أيضاً، لا بد من التنبيه إليها وهي أن الدول غير المهيئة شعوبها للديمقراطية، تكون معرضة أكثر من غيرها إلى (الاختراق الأجنبي) من قبل الدول الخارجية، الأمر الذي يجعل ما تريده وما تطلبه الشعوب يأتي في ذيل الأولويات بالنسبة للساسة، وما تتطلبه الدول الكبرى والدول الإقليمية الأقوى هو الذي يتقدم، ويكون في نهاية المطاف الفيصل الذي يراعيه الساسة المحليون من أجل (القفز) إلى سدة السلطة.
وختاماً أقول - وسبق أن قلتها مرات ومرات-: التنمية البشرية هي الأولوية التي لا أولوية تعلو عليها لبناء دولة حديثة، وليست بالضرورة الديمقراطية.
إلى اللقاء
نقلا عن الجزيرة